الفقر يطرق أبواب إسبانيا.. أربعة ملايين مواطن يعيشون بأقل من 644 يورو شهرياً
الفقر يطرق أبواب إسبانيا.. أربعة ملايين مواطن يعيشون بأقل من 644 يورو شهرياً
كشف تقرير جديد صادر عن الشبكة الأوروبية لمكافحة الفقر والإقصاء الاجتماعي في إسبانيا عن صورة مقلقة لأوضاع الفقر في البلاد، محذرًا من تفاقم الفجوة بين الأقاليم وارتفاع معدلات الفقر المدقع رغم مؤشرات النمو الاقتصادي التي تظهر في المؤشرات الرسمية.
وفقًا لما ذكرته شبكة "يورونيوز" السبت، يعيش أكثر من أربعة ملايين شخص في إسبانيا على دخل يقلّ عن 644 يورو شهريًا، في حين لا يزال ربع السكان تقريبًا يعانون خطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي، رغم تراجع طفيف في مؤشر AROPE من 26.5 إلى 25.8 في المئة خلال العام الماضي.
ويشير التقرير إلى أن هذا التحسن محدود ولا يعكس تحولًا حقيقيًا في واقع الأسر الفقيرة، إذ لا تزال إسبانيا تواجه معدلات فقر مرتفعة منذ أكثر من عقد، ما يجعلها من بين الدول الأوروبية الأكثر تأثرًا بالأزمة المعيشية المزمنة.
جغرافيا الفقر في إسبانيا
تتفاوت معدلات الفقر في إسبانيا بشكل حاد بين الأقاليم، حيث تشهد مناطق الجنوب مثل الأندلس وإكستريمادورا ومورسيا وقشتالة لا مانشا معدلات مرتفعة من الفقر والبطالة، في حين تظهر أشكال جديدة من الفقر في المناطق الغنية نسبيًا مثل مدريد وجزر البليار ونافارا، نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار السكن.
ويوضح التقرير أن أكثر من 45 في المئة من السكان الذين يعيشون في فقر مدقع في إقليمي الباسك ونافارا لا يتجاوز دخلهم الشهري 644 يورو، ويرى الخبراء أن هذه الأرقام تكشف خللاً عميقًا في توزيع الثروة داخل الدولة، حيث لم ينجح النمو الاقتصادي خلال العقد الأخير في تقليص التفاوت الطبقي أو تحسين فرص الوصول إلى الخدمات الأساسية.
وتشير الشبكة الأوروبية لمكافحة الفقر إلى أن "مكان الإقامة أصبح العامل الحاسم في رسم مصير الأفراد"، فالأقاليم ذات البنية الاقتصادية الضعيفة تفتقر إلى برامج حماية اجتماعية فعالة، في حين تعاني المناطق المزدهرة اقتصاديًا من أزمة سكن خانقة وغلاء معيشة غير مسبوق.
السكن.. قلب الأزمة
يحتل السكن موقعًا مركزيًا في معادلة الفقر الإسبانية، فقد ارتفعت تكاليف الإيجار بنسبة تقارب 40 في المئة خلال العقد الأخير، في حين تنفق الأسر في مناطق مثل جزر الكناري وجزر البليار ومدريد أكثر من نصف دخلها الشهري على الإيجار فقط.
وتشير بيانات معهد الإحصاء الوطني الإسباني إلى أن الإيجارات ارتفعت بمعدل يفوق ضعف معدل الرهون العقارية، ما جعل خيار التملك شبه مستحيل للشباب والعائلات ذات الدخل المحدود، وفي المقابل، أدت القيود على المساعدات السكنية إلى اتساع دائرة المشردين وازدياد الاعتماد على الجمعيات الخيرية لتأمين المأوى.
وترى الشبكة الأوروبية أن أزمة السكن لا ترتبط فقط بارتفاع الأسعار، بل بغياب سياسات إسكان اجتماعي فعالة، وتراجع استثمار الدولة في هذا القطاع منذ الأزمة المالية عام 2008، حين خُصخصت أجزاء واسعة من السوق العقارية، لتتحول إلى مجال مضاربة تدر أرباحًا كبيرة للمستثمرين وتثقل كاهل المواطنين.
تفاوت الحماية الاجتماعية
يبرز التقرير أيضًا تفاوتًا حادًا في فعالية نظم الحماية الاجتماعية بين الأقاليم، فبدون الإعانات والتحويلات الحكومية، كانت معدلات الفقر في مناطق مثل مورسيا وجزر الكناري لتصل إلى قرابة 50 في المئة، إلا أن المساعدات الاجتماعية أسهمت في خفضها إلى مستويات تتراوح بين 15 و26 في المئة، بحسب تقديرات الشبكة.
غير أن هذه المساعدات لا توزع بعدالة، وتفتقر إلى التنسيق بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية، ما يؤدي إلى فجوات في التغطية وحرمان فئات واسعة من الدعم، وتؤكد الشبكة أن "القضية لم تعد تتعلق بالناتج المحلي الإجمالي فحسب، بل بالإرادة السياسية والخيارات الاجتماعية التي تتبناها الدولة".
وتطالب منظمات المجتمع المدني الإسبانية بإصلاح شامل لنظام الدخل الأدنى المضمون الذي أُقر عام 2020، والذي اعتبر خطوة مهمة نحو العدالة الاجتماعية لكنه يعاني من بيروقراطية معقدة تحد من وصول الفئات الأكثر هشاشة إليه.
الأطفال في قلب المعاناة
يُعد فقر الأطفال أحد أخطر أوجه الأزمة الاجتماعية في إسبانيا، فالتقرير يبيّن أن نحو 2.3 مليون طفل يعيشون في ظروف معيشية صعبة، لتتبوأ البلاد المرتبة الأولى أوروبيًا في معدلات فقر الطفولة.
ويحذر التقرير من فشل إسبانيا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالقضاء على الفقر، ولا سيما الهدف الأول من أجندة 2030 للأمم المتحدة، داعيًا إلى إقرار عاجل لميثاق الدولة لمكافحة الفقر، المجمّد حاليًا في البرلمان الإسباني.
وتشير الشبكة إلى أن نحو 34 في المئة من الأسر التي يعيلها أحد الوالدين فقط -وغالبها تعولها نساء- تواجه خطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي، كما أن ارتفاع تكاليف التعليم والنقل والسكن يجعل الأطفال الحلقة الأشد ضعفاً في المنظومة الاجتماعية، ويكرس حلقة الفقر عبر الأجيال.
منظمات الطفولة التابعة للأمم المتحدة، مثل اليونيسف، حذرت بدورها من أن غياب بدل شامل لتربية الأطفال في إسبانيا يعمّق الفجوة الطبقية ويحد من تكافؤ الفرص التعليمية منذ المراحل الأولى من الحياة.
المجتمع المدني يدعو لميثاق وطني
في ضوء هذه المعطيات، طالبت الشبكة الأوروبية لمكافحة الفقر باعتماد ميثاق وطني جديد يضمن الدخل الأساسي والسكن اللائق ويعزز التماسك الاجتماعي، مؤكدة أن الحلول لا يمكن أن تظل محلية أو ظرفية، بل تتطلب التزامًا وطنيًا واسعًا يشارك فيه القطاعان العام والخاص.
من جانبها، دعت منظمات حقوقية إسبانية إلى إصلاح النظام الضريبي ليصبح أكثر عدالة وتصاعدية، ما يتيح تمويل برامج الحماية الاجتماعية بشكل مستدام، وتقليص الاعتماد على المعونات المؤقتة.
وفي السياق نفسه، شددت تقارير صادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي الإسباني على أن محاربة الفقر ليست قضية خيرية، بل ركيزة أساسية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي المتوازن، مؤكدة أن "كل يورو يُستثمر في مكافحة الفقر يوفّر لاحقًا أضعافه في تقليص تكاليف الرعاية الصحية والبطالة".
أبعاد إنسانية واقتصادية
وراء الأرقام، تتجلى الأزمة في معاناة يومية تمس كرامة الإنسان وأمنه الاجتماعي، فالمواطن الذي يضطر للاختيار بين دفع الإيجار أو شراء الطعام يعيش ما تسميه المنظمات الإنسانية "الفقر المعيش"، حيث لا تقتصر المعاناة على نقص الموارد بل تمتد إلى الشعور بالتهميش وفقدان الأمل في المستقبل.
ويرى مختصون في الاقتصاد الاجتماعي أن الأزمة الحالية في إسبانيا تكشف هشاشة النموذج التنموي القائم على القطاعات الخدمية والسياحية، والتي أثبتت ضعفها أمام الأزمات مثل جائحة كورونا وارتفاع الأسعار العالمية، إذ أدى التضخم وتباطؤ الأجور إلى تآكل القوة الشرائية وتراجع القدرة على الادخار حتى بين الطبقة الوسطى.
تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار في وقت سابق إلى أن إسبانيا، رغم كونها رابع أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، تعاني من واحدة من أعلى نسب التفاوت في الدخل داخل الاتحاد الأوروبي، إذ يمتلك أغنى عشرة في المئة من السكان ثروة تعادل ما يملكه نصف السكان الأدنى مجتمعين.
وتعود جذور الفقر الحديث في إسبانيا إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي خلّفت آثارًا طويلة الأمد في سوق العمل والإسكان، فقد ارتفعت البطالة حينها إلى أكثر من 25 في المئة، خصوصًا بين الشباب، وأُجبرت الحكومة على تطبيق سياسات تقشف حادة قلصت من الإنفاق الاجتماعي.
ورغم التعافي التدريجي خلال العقد الأخير، فإن الإصلاحات التي أُقرت لم تفلح في معالجة الفجوة بين المناطق ولا في تقليص الاعتماد على الوظائف المؤقتة والأجور المنخفضة، ومع ارتفاع تكاليف المعيشة بعد جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، عاد الفقر ليحتل صدارة القضايا الاجتماعية في البلاد.
استعادة العدالة الاجتماعية
تدعو الشبكة الأوروبية لمكافحة الفقر والمنظمات الأممية إلى رؤية متكاملة تضمن الحقوق الأساسية في الدخل والسكن والتعليم والصحة، وتربط النمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية، كما تطالب بآليات مراقبة مستقلة لتقييم فعالية البرامج الحكومية وضمان وصول الدعم إلى الفئات الأكثر هشاشة.
وفي حين تبقى مؤشرات الاقتصاد الكلي لإسبانيا إيجابية نسبيًا، فإن الأرقام الاجتماعية تكشف عن واقع أكثر قسوة، يعاني فيه ملايين الإسبان من التهميش والفقر في بلد يُعد من أكثر دول أوروبا تقدمًا وازدهارًا.
في نهاية المطاف، لا يقاس نجاح الدولة بنمو ناتجها المحلي فقط، بل بقدرتها على صيانة كرامة مواطنيها وضمان الحد الأدنى من العيش الكريم للجميع، وهو ما تؤكد الشبكة الأوروبية أنه بات التحدي الأكبر أمام إسبانيا في العقد الحالي.










